[القاهرة - محرر مصراوي - استعرض الكاتب الكبير الأستاذ فهمي هويدي قصة مواطن مصري تورط - زورًا - في قضية مخدرات، وتم القبض عليه بالخطأ رغم أنه لم يكن بمصر وقت التهمة التي وجهت له.
وهذا هو نص مقال الكاتب فهمي هويدي:
كارثة أن تكون مواطنًا عاديًا!
هذه مأساة رجل مشكلته الوحيدة أنه مواطن عادى. صحيح أن أباه كان رجلا محترما ترقى فى الوظائف حتى أحيل إلى التقاعد وهو على درجة وكيل وزارة، ولأنه كان من مؤسسى الجهاز المركزى للمحاسبات، فقد أُعطى نوط الامتياز من الطبقة الأولى. لكنه ظل مواطنا عاديا لا حول له ولا قوة، وورَّث أبناءه هذه السُّبة، فعاشوا بلا ظهر ولا سند.
هو شاب طموح، سافر إلى الولايات المتحدة الأمريكية وهو فى العشرين من عمره لدراسة الطيران، فحصل على شهادة ملاح خاص، ثم اجتهد فحصل على شاهدة ملاح تجارى، ولم يوفق فى استكمال دراساته فعاد إلى القاهرة لكى يستقر فيها، ويواصل عمله الذى أوفده فى مهمته الدراسية، ذلك كله حدث فى الفترة ما بين عامى 1988 و2000.
مأساة صاحبنا عرضتها تحقيقات الأهرام (عدد 11 يناير الحالى). إذ ذكرت أنه خرج من بيته ذات صباح، ففوجئ بكمين شرطة يلقى القبض عليه بدعوى أنه هارب من حكم غيابى صادر ضده فى قضية مخدرات قضى بحبسه لمدة عام وتغريمه خمسة آلاف جنيه. كان الرجل قد عاد لتوه من الولايات المتحدة (لم تكن أسرته قد علمت بوصوله) فأذهله ما سمعه. ولأول وهلة أدرك أن ثمة التباسا فى الاسم، ذلك أن اسمه محمد عبدالوهاب ومن سكان حى مصر الجديدة. أما المتهم الذى صدر ضده الحكم الغيابى فاسمه محمد عبدالوهاب محمود إبراهيم ومن سكان حى السيدة زينب. لكن ذلك لم يشفع له، إذ رغم تقديم الطيار البرىء جواز سفره إلى مأمور السجن ــ كما ذكر تقرير الأهرام ــ الذى أثبت أنه لم يكن موجودا فى مصر وقت ارتكاب الجريمة، وأن هناك اختلافا واضحا فى الاسم بينه وبين المتهم الأصلى، وهناك اختلافات فى الوظيفة ومحل الإقامة وتاريخ الميلاد. فإن مأمور السجن صم أذنيه ولم يأبه بكل ذلك، وأمر باستمرار احتجازه، وكانت تلك بداية سحقه وتدميره. إذ أصيب بصدمة زلزلت كيانه وأفقدته القدرة على التفكير، لم يجد أحدا يستمع إلى استغاثاته، وظل مصنفا باعتباره مروج مخدرات صدر ضده حكم غيابى، وينتظر إعادة محاكمته بعد ضبطه، وحين تم ذلك صدر حكم بحبسه لمدة عام وتغريمه عشرة آلاف جنيه. فاقتيد لتنفيذ العقوبة حيث وضع فى زنزانة مليئة بالشياطين من النزلاء ــ والوصف لتقرير الأهرام ــ الذين كانوا خليطا من تجار المخدرات والمدمنين، فحطموا قواه العقلية والجسدية، من جراء التعذيب والاعتداء عليه داخل الزنزانة. حتى تحول إلى بقايا رجل فقد كل شىء، كرامته وإنسانيته ووظيفته وبيته.
بعد تسعة أشهر من ذلك الجحيم علمت الأسرة بالخبر. فسارعوا إلى زيارته، حيث وجدوه شبحا فى حالة يرثى لها، وآثار عض غريبة ظاهرة فى جميع أنحاء جسمه. صدمت أمه حين رأته وأصيبت بأزمة قلبية وصدمة نفسية، أدت إلى وفاتها. ولجأت شقيقته إلى محامية كان من السهل عليها إثبات براءته، بعد اللجوء إلى الطب الشرعى لكى يحدد من هو المتهم الحقيقى فى قضية ترويج المخدرات (المتهم الأصلى كان فى سجن القناطر الخيرية يقضى مدة العقوبة فى قضية أخرى!) خرج الطيار محمد عبدالوهاب إنسانا محطما يجر رجليه وغير قادر على التماسك أو التركيز. وما أن بدأ علاجه نفسيا حتى فوجئ برجال المباحث يقتادونه إلى مديرية أمن القليوبية لينفذ عقوبة الإيذاء البدنى والمراقبة عن قيمة الغرامة (10 آلاف جنيه)، وكان عليه أن يقضى شهرا كاملا داخل أحد أقسام المديرية. حيث كان عليه أن يقوم بأعمال النظافة داخل القسم من الصباح الباكر وحتى بعد الظهر، وهى فترة تعرض خلالها لأبشع ألوان القسوة والظلم والسباب بألفاظ نابية، حتى كره حياته وفكر فى الانتحار أكثر من مرة، ولكن شقيقته كانت إلى جواره تسانده وتثنيه.
تحول الرجل الآن إلى بقايا إنسان، تحاول أسرته أن تعالجه، وثمة قضية مرفوعة لتعويضه عما أصابه بما يساعد فى إنقاذه. ولكن حظه كمواطن عادى معروف. فلا هو لاعب كرة قدم ولا هو ممثل أو راقص، ثم إنه ليس قريبا أو منسوبا إلى أهل الجاه والنفوذ. ولأنه مجرد مواطن ليس من الطبقة الممتازة فقد لاحقته اللعنة. حيث كتب عليه أن يعيش مظلوما ومقهورا، وأن يموت كمدا. المشكلة أنه ليس وحيدا لأن فى مصر 80 مليون مواطن عادى من أمثاله لا ظهر لهم ولا سند....
وهذا هو نص مقال الكاتب فهمي هويدي:
كارثة أن تكون مواطنًا عاديًا!
هذه مأساة رجل مشكلته الوحيدة أنه مواطن عادى. صحيح أن أباه كان رجلا محترما ترقى فى الوظائف حتى أحيل إلى التقاعد وهو على درجة وكيل وزارة، ولأنه كان من مؤسسى الجهاز المركزى للمحاسبات، فقد أُعطى نوط الامتياز من الطبقة الأولى. لكنه ظل مواطنا عاديا لا حول له ولا قوة، وورَّث أبناءه هذه السُّبة، فعاشوا بلا ظهر ولا سند.
هو شاب طموح، سافر إلى الولايات المتحدة الأمريكية وهو فى العشرين من عمره لدراسة الطيران، فحصل على شهادة ملاح خاص، ثم اجتهد فحصل على شاهدة ملاح تجارى، ولم يوفق فى استكمال دراساته فعاد إلى القاهرة لكى يستقر فيها، ويواصل عمله الذى أوفده فى مهمته الدراسية، ذلك كله حدث فى الفترة ما بين عامى 1988 و2000.
مأساة صاحبنا عرضتها تحقيقات الأهرام (عدد 11 يناير الحالى). إذ ذكرت أنه خرج من بيته ذات صباح، ففوجئ بكمين شرطة يلقى القبض عليه بدعوى أنه هارب من حكم غيابى صادر ضده فى قضية مخدرات قضى بحبسه لمدة عام وتغريمه خمسة آلاف جنيه. كان الرجل قد عاد لتوه من الولايات المتحدة (لم تكن أسرته قد علمت بوصوله) فأذهله ما سمعه. ولأول وهلة أدرك أن ثمة التباسا فى الاسم، ذلك أن اسمه محمد عبدالوهاب ومن سكان حى مصر الجديدة. أما المتهم الذى صدر ضده الحكم الغيابى فاسمه محمد عبدالوهاب محمود إبراهيم ومن سكان حى السيدة زينب. لكن ذلك لم يشفع له، إذ رغم تقديم الطيار البرىء جواز سفره إلى مأمور السجن ــ كما ذكر تقرير الأهرام ــ الذى أثبت أنه لم يكن موجودا فى مصر وقت ارتكاب الجريمة، وأن هناك اختلافا واضحا فى الاسم بينه وبين المتهم الأصلى، وهناك اختلافات فى الوظيفة ومحل الإقامة وتاريخ الميلاد. فإن مأمور السجن صم أذنيه ولم يأبه بكل ذلك، وأمر باستمرار احتجازه، وكانت تلك بداية سحقه وتدميره. إذ أصيب بصدمة زلزلت كيانه وأفقدته القدرة على التفكير، لم يجد أحدا يستمع إلى استغاثاته، وظل مصنفا باعتباره مروج مخدرات صدر ضده حكم غيابى، وينتظر إعادة محاكمته بعد ضبطه، وحين تم ذلك صدر حكم بحبسه لمدة عام وتغريمه عشرة آلاف جنيه. فاقتيد لتنفيذ العقوبة حيث وضع فى زنزانة مليئة بالشياطين من النزلاء ــ والوصف لتقرير الأهرام ــ الذين كانوا خليطا من تجار المخدرات والمدمنين، فحطموا قواه العقلية والجسدية، من جراء التعذيب والاعتداء عليه داخل الزنزانة. حتى تحول إلى بقايا رجل فقد كل شىء، كرامته وإنسانيته ووظيفته وبيته.
بعد تسعة أشهر من ذلك الجحيم علمت الأسرة بالخبر. فسارعوا إلى زيارته، حيث وجدوه شبحا فى حالة يرثى لها، وآثار عض غريبة ظاهرة فى جميع أنحاء جسمه. صدمت أمه حين رأته وأصيبت بأزمة قلبية وصدمة نفسية، أدت إلى وفاتها. ولجأت شقيقته إلى محامية كان من السهل عليها إثبات براءته، بعد اللجوء إلى الطب الشرعى لكى يحدد من هو المتهم الحقيقى فى قضية ترويج المخدرات (المتهم الأصلى كان فى سجن القناطر الخيرية يقضى مدة العقوبة فى قضية أخرى!) خرج الطيار محمد عبدالوهاب إنسانا محطما يجر رجليه وغير قادر على التماسك أو التركيز. وما أن بدأ علاجه نفسيا حتى فوجئ برجال المباحث يقتادونه إلى مديرية أمن القليوبية لينفذ عقوبة الإيذاء البدنى والمراقبة عن قيمة الغرامة (10 آلاف جنيه)، وكان عليه أن يقضى شهرا كاملا داخل أحد أقسام المديرية. حيث كان عليه أن يقوم بأعمال النظافة داخل القسم من الصباح الباكر وحتى بعد الظهر، وهى فترة تعرض خلالها لأبشع ألوان القسوة والظلم والسباب بألفاظ نابية، حتى كره حياته وفكر فى الانتحار أكثر من مرة، ولكن شقيقته كانت إلى جواره تسانده وتثنيه.
تحول الرجل الآن إلى بقايا إنسان، تحاول أسرته أن تعالجه، وثمة قضية مرفوعة لتعويضه عما أصابه بما يساعد فى إنقاذه. ولكن حظه كمواطن عادى معروف. فلا هو لاعب كرة قدم ولا هو ممثل أو راقص، ثم إنه ليس قريبا أو منسوبا إلى أهل الجاه والنفوذ. ولأنه مجرد مواطن ليس من الطبقة الممتازة فقد لاحقته اللعنة. حيث كتب عليه أن يعيش مظلوما ومقهورا، وأن يموت كمدا. المشكلة أنه ليس وحيدا لأن فى مصر 80 مليون مواطن عادى من أمثاله لا ظهر لهم ولا سند....